الجمعة، 10 ديسمبر 2010

الاعلام العربى ..... ورحلة البحث عن الابن الضال

في رحلة البحث عن الإعلام العربي .. تواجهنا أسئلة صعبة ، تبحث عن إجابات تضيء وتهدي .. هل حقا للإعلام فى وطننا العربي هوية ؟ .. وهل يمكننا - إن وجدت - أن نكشف عنها بصورة موضوعية ؟ وما علاقة ذلك بالمشهد الإعلامي العالمي الذي يشده بعيدا بعيدا عن هموم أمته ؟ وكيف نعيده إلى أحضانها ؟ ليلعب دوره فى إعادة صياغة حياتها من جديد على قيم الحق والعدل والحرية ؟ .
هنالك بالطبع رؤى متباينة حول مسألة الإعلام في الوطن العربي .. حيث يراه البعض فى مخاض عسير.. يمكن أنيؤدي إلى ميلاد جديد لإعلام يتبنى قضايا الأمة ويحصنها من المخاطر .. في حين بعضهم الآخر يرى أن المخاض قد يطول ، وأن الميلاد الحقيقي ، قد يحتاج جهودا بحجم المعجزات !
وأيا ما كان الحال .. فإن رحلة البحث عن الإعلام تبدأ بالسؤال .. هل للإعلام العربي هويةالمعاش ؟ وهل نستطيع أن نكشف عنها ؟ .. وقبل المخاطرة بأي إجابة عن السؤال يتعين علينا أن نؤكد على عدد من البديهيات ؟!..
أولها : أن وجود الصحف والصحفيين والإذاعات والمحطات الفضائية .. لايعني وجود إعلام عربي واضح الهوية .. لأن الإعلام لايكون عربيا إلا إذاتوفرت شروط تحققه .. أن يتأسس على رؤية عربية ، وأن يولد من قلب المعاناة العربية ، وأن يعبر عن الذات والمصالح العربية .. بغير ذلك لايستحق اسمه !
وثانيها : أن الإعلام كغيره من الأنشطة الاجتماعية والإنسانية لايعيش فى الفراغ , ولكنه يتبادل التأثير مع الواقع المعاش ، ومع البيئة العالمية والإقليمية المحيطة .. ويكتسب خصائصه المميزة من الطريقة التي يتفاعل بها مع محيطه .
* وثالثها أن الإعلام العربي ـ لذلك ـ يتأثر بالمشهد الإعلامي العالمي بكل مايحيط به من تحولات .. كما يتأثر بالنظام العربي الذي يعمل من خلاله .. كما يتأثر بالضرورة بظروف وهموم وتطلعات الجماهير التي يتوجه إليها .. وقبل ذلك كله بطبيعة الرسالة التي يحملها والغاية الموجهة لحركته فى المجتمع .
إن البحث فى هوية الإعلام العربي يبدأ بتشخيص علاقته بمكونات الفضاء الإعلامي .. تلك المساحة التي تحد بأربعة أضلاع ..الإعلام العالمي .. والنظام العربي ..والجماهير العربية ..والغاية الموجهة لنشاطه . وتبدأ الرحلة بإطلالة على المشهد الإعلامي العالمي .
خلف قضبان الأسر الإمبراطوري
يتاثر الإعلام العربي بالمشهد الإعلامي العالمي بكل ما يحيط من تحولات ، وإذا كانت المتغيرات العالمية فـي الـربع قـرن الماضي قد أحــدثت تأثيرات عميـقة على حياة العالم في كل مجال وعلى كل صعيد .. فإن تأثيراتها على المشهد الإعـــلامي العـالمي كانت أكثر عمقا .. ويمكننا أن نرصد هذه الآثارالبالغة الخطورة في أربعة اتجاهات أدى انهيار القطبية الثنائية .. إلى انفلات شهوة القطب الواحد في الهيمنة على العالم ..وإلحاحه على عولمة الإعلام .. إخبارا وتثقيفا وترفيها .. باعتبارأن عولمة الإعلام مقدمة لعولمة الثقافة .. وأن عولمة الثقافة هي التي ترسخ لعولمة الاقتصاد والسياسة .
كما أدى التطور غير المسبوق في تقنية الاتصال والمعلومات إلى تغييرات جذرية فى طبيعة العمل الثقافي ، وفي أسلوب نشر الثقافة ، وفي محتوى وشكل الرسالة الإعلامية ، وفي أسلوب الإنتاج الثقافي والإعلامي على النطاق العالمي .
في سياق هذة الطفرة المعلوماتية .. تحولت الثقافة إلى صناعة أصبحت خلال عشر سنوات أهم صناعات العصر.. بل وأهم خصائص العصر .. وتحول المنتج الثقافي إلى " سلعة " جاهزة للانتقال عبر قنوات اتصال جديدة تتخطى حواجز الزمان والمكان !!
و في سياقها.. ظهر البريد الإلكتروني ، والبث الفضائي ، والمرئيات المحورية ، والطباعة عن بعد ..ثم تجمعت كلها فى شبكة عالمية هائلة " الإنترنت "..وأصبحت جاهزة لنقل السلعة الثقافية ..مرئية ومكتوبة ومسموعة .. في التو واللحظة .. إلى كل أركان المعمورة .
في سياق ومجرى هذه الطفرة الهائلة .. تغير شكل ومحتوى الرسالة الإعلامية .. لم تعد تلك الرسالة تعتمد على الفكرة وحدها ..ولاعلى الكلمة وحدها .. ولكنها أصبحت تتوجه إلى الغرائز وإلى الوجدان ، وعن طريق الأصوات ، والحركات ، والإيحاءات ، والألحان ، والألوان ، والظلال .. مغلفة جميعا بعنصر الإبهار !
وفي مجرى هذه الطفرة الهائلة ..تنـــــــامى الاحتكار في مجال الإعلام والثقافة ، وانتقل من احتكار الأخبار والمعلومات والصور بين خمس وكالات عالمية .. إلى اندماجات عالمية إعلامية كبرى .. بين احتكارات صناعات الإرسال والبث ، وبين شـــركات التوزيع الإعــلامي والثقـــافي والفـــــني على مستوى الكوكب
هكذا وبفعل الالتقاء بين شهوة الهيمنة للقطب العالمي الوحيد ، وبين إمكانات ثورة الاتصال وتقنية المعلومات .. استطاعت القوى المهيمنة أن تطبق على المراكز والأعصاب الحســـــاسة للإعلام في العالم .
حيث امتلكت البنية الأساسية للاتصال المتمثلة في صناعة الأقمار والحواسيب ، والمنظومات ، وأجهزة الإرسال والاستقبال والشبكات .
وحيث تمكنت من السيطرة على مصادر المعلومات ، وقنوات توزيعها ، باحتكار شركات الإنتاج الإعلامي والثقافي والفني ووكالات الأنباء .
وحيث إحتكرت الأوعية الحاملة لمحتوى الرسالة الإعلامية ..من موسيقى وأغـانٍ وأخـــبــار وأشرطة مرئية .
وبهذا ظهر إلى الوجود ما يمكن تسميته
بأمان كامل " الإمبريالية العالمية " .
في هذه الإمبريالية الجديدة ..تتحول الأقمار إلى مواقع لنشر القوات .. والهوائيات إلى ترسانات للأسلحة .. والفضائيات إلى منصات إطلاق .. تطلق على مدار الساعة ..رسالة إعلامية تخضع لسيطرة الإعلان . . تسوق شهوة الاستهلاك ، وتمجد غايات الترفيه ، وتفجر نزعات العنف ، وتبرراستغلال الشعوب ، وتنشر مظاهر التغريب ، وتعلي مصالح القوى المهيمنة ، وتبشر بقوالب الفن الغربي ، وتشرع للتدخل فى شؤون الدول ..اقتصادياتها ومعتقداتها .. رسالة تمهد الوجدان للتماهي بصورة تامة في ثقافة الغرب
ولعل أخطر ما في هذا المحتوى الوافد الجديد ..هو أنه محتوى سائل ومتحرك .. قابل للانتقال بين مختلف الوسائط في لحظة واحدة .. إنه لايحمل في طياته ضغطا من أي نوع .. ويتجه مباشرة إلى وجدان ووعي المتلقي .. ويعمل بطريقة لاإرادية عبر آليات الإبهار على تنميط خيال المتلقي .. ثم إعـــادة صيــاغته وجــدانيا ونفسيا وعقليا .
وإذا كانت معطيات المشهد الإعلامي العالمي ,وإمبرياليتة العالمية تضغط بتأثيراتها السلبية على الأداء الإعلامي في كل أنحاء المعمورة كحصة موزعة على كل الشعوب والأمم وتحديا مفروضا عليها جميعا .. إلا أنه بالنسبة لنا نحن العرب ..هنالك حصة أخرى.. خاصة وإضافية .. تأتينا سافرة عارية .. واضحة دون غطاء .. هي العداء المكشوف للعرب والمسلمين ، ويتجسد هذا العداء في برامج عملية معلنة تستهدف دفع الإعلام العربي لأن يكون جزءاً من خطة الإعلام الأمريكية .. برامج يتم تنفيذها على خمسة مستويات : " استراتيجي " بخلق جيل تابع من الصحفيين ، و" اقتصادي" بتوطين الثقافة الأمريكية على الاستثمارات ، و"سياسي"بالدعاية للمواقف الأمريكية ، و"ثقافي " بالترويج لنمط الحياة الأمريكية ، و" مهني "باستدراج المهنة الصحفية إلى الثقافة الأمريكية .
وأستحضر هنا عينة من البرامج العملية الموثقة التي تؤكد الإصرار على تبعية الإعلام العربي و على تدويله ، و إدارته ، و التأثير على مستقبله من الخارج ولصالحه " .
هنالك برنامج الدبلوماسية الشعبية .. ويتمثل في حملة تستهدف الوصول إلى الجماهيرالعربية والإسلامية ، بهدف تحسين صورة الولايات المتحدة الأمريكية ، و دفع الجماهير لتبني مواقفها و تقبل ثقافتها ، عن طريق الصحافة و الإعلام ، و العمل على تحويل الإعلام العربي إلى جزء من فضاء الإعلام الأمريكي .
وهنالك الوسائط الإعلامية الأمريكية التي تأسست بغرض تسطيح وعــي الجماهير العربيـــة و الإسلاميــة .. و تتمثل في قناة الحرة ، و إذاعـــة سوا ، و مجلة هاي .
وهنالك الجهود التي تبذلها " الوكالة الأمريكية للتنمية " في تأسيس المطابع و تنفيذ البرامج التدريبية للصحفيين ، بهدف حماية المصالــح الأمريكــية في الداخل و الخارج .. ومما يذكر أن هذه الوكالة تعمل على النطاق العالمي ، وأنها أنفقت في السنوات القليلة الماضية 270 مليون دولار، و أنها تقـوم بتدريــب مراسلين و محررين و مذيـعـين فـي كل من نيـجـيريا وغـينيا وسـاحـل الـعـاج و عشرات من الدول الأخرى ، وأنها لا تتوقف عن إعلان أهدافها في إقامة " إعلام حر و مستقل يكون شريكاً في تنفيذ الخطة الأمريكـــية في الشــرق الأوسط .!!"
وهنالك الجهود المباشرة التي تقوم بها وزارة الخارجية الأمريكية و " الوكالة الدولية للتنمية".. بتنفيذ برنامج دعم وسائل الإعلام تحت شعارات " الاستقلالية " و"عدم التدخل في شؤون المهنة " و "حماية الصحفي."!! هذا بالإضافة إلى الـدعـم المالـي لـشراء الأجـهزة و المستلزمات الإعلامية فيما يسمى" بمبادرات الانتقال"
ومع ملاحظة أن معطيات طفرة الاتصال والمعلومات لم تصل بعد إلى نهاياتها .. إلا أنها تضع إعلامنا العربي البالغ الضعف ..أسيرا خلف القضبان ..في سجون الإمبراطورية الإعلامية التي شيدتها الاحتكارات العالمية الكبرى لمقدرات العمل الإعلامي .. يجد نفسه محاصرا بمخاطر التبعية ومحاولات التدويل.. وجها لوجه.. في مواجهة تحديات ثلاثة : ـ
تحدي الاختراق الثقافي الوافد ، والضغط باتجاه العولمة السياسية
تحدي الهجمة الشرسة على العرب والمسلمين .
تحدى احتكار صناعة المعلومات وأدوات الاتصال .
وفي مقابل هذه التحديات الثلاثة تحمل لنا طفرة المعلومات والاتصال ثلاثة إمكانات متاحة .
إمكانية الاستفادة من ناتج التطور التقني في تطوير أدائنا الإعلامي .
وإمكانية تخطي الفجوة التقنية باستثمار عربي مشترك .
وإمكانية الوجود الفعال في ساحة الفضاء الإعلامي المفتوح .
تلك هي أبعاد علاقة إعلامنا العربي بالمشهد الإعلامي العالمي ..عند أول محطات الرحلة المضنية عن الإعلام العربي التائه ..نغادرها إلى الوطن العربي .. إلى بلاط أصحاب الجلالة ..بحثا عن الابن الضال .
محمد رضــــا طلبة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق